بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أحد أئمة الإسلام الأعلام الأشهر في التاريخ الإسلامي، عالم جليل عظيم، القارئ لسيرته رحمه الله يجد العجب العجاب، رجل قلما شهدت البشرية مثله، عالم مجاهد حافظ متقن مفسر أوتي من شتى العلوم وبرع في أصنافها، ومن شدة علمه الغزير وذكائه الوقاد وتقواه لله عز وجل كان صاحب حق صداح به لا تأخذه في الله لومة لائم، وما كان صاحب حق يدعو إلى الله عز وجل إلا وامتحن، فهذا رسول الله ﷺ أصابه من المحن والشدائد ما أصاب وهو نبي، فما بالك بالعلماء؟ في هذا المقال إن شاء الله، نتحدث عن قصة محنة ابن تيمية شيخ الإسلام رحمه الله وقصة سجنه وأسبابها.
(لقراءة قصة سيرة حياة ابن تيمية رحمه الله اضغط هنا)
محنة ابن تيمية شيخ الإسلام رحمه الله
و محنة ابن تيمة شيخ الإسلام رحمه الله معروفة جدا، فقد دخل السجن مرات عديدة ومات فيه في آخر مرة، وهنا نقص محنته باختصار:
ماسبب سجن ابن تيمية
لما كان الشيخ رحمه الله ذا علم غزير وذا مكانة رفيعة، كثر الحساد والحاقدون عليه من حوله، ومن أسباب تقوية ذلك أن الشيخ رحمه الله كانت تعتريه حدة، ولربما كان يرد ردودا شديدة على بعض المخالفين فيحملون الضغائن والأحقاد عليه. وزاد من ذلك ارتفاع مكانة الشيخ بين العامة بعد معركة التتار، إذ أن الولاة وفقهاء الضلال قد تولوا وفروا خوفا من التتار، بينما واجههم الشيخ رحمه الله وشجع الناس وحمسهم وحرضهم حتى جاء نصر الله، فلما هدأت الأوضاع بعد ذلك عادت الضغائن والأحقاد أقوى من ذي قبل، وبدأت الدسائس تدس له وكثر الكذب عليه وتأليب ولاة الأمور عليه.
فلما كانت السنة 705هـ عقدت له عدة مناظرات نوقش فيها حول الفتوى الحموية والعقيدة الواسطية (وقد ذكرنا شيئا من مناظرة العقيدة الواسطية في عقيدة شيخ الإسلام). ونصره الله تعالى وأظهره على خصومه بما آتاه من غزارة العلم ومتانته، ووقادة ذكائه وحكمته. وكانت هذه السنة من أشد السنوات التي امتحن فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد وقعت بينه وبين طوائف كثيرة مخاصمات منها الطائفة الأحمدية والرفاعية، وكلها طوائف ضلالات وبدع، فحاربهم بالقلم واللسان حتى نصر الله الحق، وأصدر قانون أن من خرج على الكتاب والسنة ضربت عنقه.
سجن شيخ الإسلام ابن تيمية للمرة الأولى
وفي تلك السنة نفسها، حاك له أعداؤه وخصومه المؤامرات فألبوا عليه السلطان، فأمر بالشيخ فحمل إلى القاهرة وخرجت جموع المسلمين حزينة على فراقه، فلما حمل إليها عقدت له محاكمة في القلعة اجتمع فيها قادة كبار ورجال دولة وقضاة وفقهاء، وكان المدعي عليه أحد أكبر خصومه، وكان يدعى زين الدين بن مخلوف وكان قاضيا. وقد أعطوه الحكم عليه وكان خصمه فاستغل تلك الفرصة فزج به في الحبس في برج ثم نقل إلى السجن، وسجن معه أخواه شرف الدين وزين الدين.
وبقي في السجن سنة ونصفا، حتى خرج في ربيع الأول سنة 707هـ، أخرجه أمير العرب إلى مصر حسام الدين مهنا بنفسه من السجن. فأقام بالقاهرة ينشر العلم، واجتمع له الناس.
سجن شيخ الإسلام ابن تيمية للمرة الثانية
ثم اشتكى منه الصوفية إلى القاضي لأنه كان يتناول ابن العربي وغيره من أرباب التصوف في الكلام ويقدح فيهم، وهؤلاء عند الصوفية مقدسون. فخير القاضي الشيخ رحمه الله بين أن يقيم بدمشق أو الإسكندرية بشروط، وبين أن يدخل الحبس، فاختار الحبس وآثره على قبول تلك الشروط. فدخل السجن في نفس السنة التي خرج فيها.
وفي تلك الفترة عزل السلطان الناصر بن قلاوون نفسه عن السلطنة بسبب الأحداث السياسية، وكان هذا الأخير محبا للشيخ عارفا له قدره، لكن بعد عزله تولى السلطنة الملك المظفر بيبرس الجاشنكير، وكان من الصوفية فصار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عدوا له من جهة أمور العقيدة، وعدوا سياسيا على أنه من أنصار السلطان المعزول الناصر بن قلاوون.
وبقي الشيخ محبوسا سنتين كاملتين، وحتى لما كان بالسجن كان ينشر العلم والدعوة إلى الله بين السجناء، فينقلب السجن الذي يدخل إليه ابن تيمية رحمه الله إلى مدرسة دين وأخلاق، حتى أن بعض المساجين إذا ما أطلقوا يختارون الإقامة عند الشيخ. وظل الشيخ محبوسا بالإسكندرية إلى أن عاد السلطان الناصر بن قلاوون إلى عرش مصر في يوم عيد الفطر من السنة 709هـ، فأمر بإطلاق سراح الشيخ، واستقبله في القاهرة استقبالا مهيبا في يوم الجمعة 24 شوال في جمع غفير من الوزراء والأمراء والقضاة.
عفو شيخ الإسلام ابن تيمية عن خصومه
ومع كل ذلك الطغيان الذي تلقاه الشيخ من أعدائه وخصومه الذين خافوا من أن يقتص منهم بعودة السلطان الناصر إلى سدة الحكم وظهور أمر الشيخ مرة أخرى وعزته، مع كل هذا عفا الشيخ رحمه الله عنهم وسكن غضب السلطان عليهم بعد أن كان يريد بهم سوءا ومدحهم عنده حتى هدأه.
حتى قال عنه نفس خصمه الذي ذكرناه سابقا القاضي ابن مخلوف:
ما رأينا أعفى من ابن تيمية، لم نبق ممكنا في السعي فيه، فلما قدر علينا عفا عنا.
عودته لدمشق
وعاد الشيخ لنشر العلم ومحاربة البدع في القاهرة، حتى جاءت سنة 712هـ فخرج مع الجيش المصري لغزو التتار، فلما وصل معهم إلى عسقلان توجه إلى بيت المقدس، ثم منها عاد إلى دمشق بعد غياب سبع سنوات و7 جمع، فعاد هناك إلى نشر العلم وتصنيف المصنفات والكتب والإفتاء.
وكان رحمه الله لا تأخذه في الله لومة لائم، يدور مع الدليل من الكتاب والسنة حيث دار، فكان يوافق الأئمة الأربعة في مسائل ويخالفهم في مسائل، واشتد عداء الفقهاء له من أتباع المذاهب فتاوي الشيخ وجاهروا باستنكارها، وكان من المسائل التي خالف فيها مسألة الحلف بالطلاق، ورفع فيها الفقهاء ضده شكوى إلى قاضي قضاة الشام فأمر بالتوقف عن الإفتاء بها، لكنه استمر رحمه الله بالإفتاء بها يخاف الوقوع في إثم كتم العلم.
سجن شيخ الإسلام ابن تيمية للمرة الثالثة
وكثرت عليه الفتن والعداوات حول هذه المسألة وغيرها من المسائل، حتى عقدوا له مجلسا يعاتبونه فيه دون جداله، لكن دون جدوى، فهذه حقيقة من لا تأخذه في الله لومة لائم، حتى أمر بحبسه نائب السلطنة في رجب من السنة 720هـ، فحبس مرة أخرى في دمشق 5 أشهر و18 يوما خرج بعدها بأمر من السلطان في المحرم من السنة 721هـ وعاد إلى نشر العلم والدعوة.
سجن شيخ الإسلام ابن تيمية للمرة الرابعة والأخيرة
ولكن أعداء السنة من المبتدعة وأهل الضلال ظلوا يحفرون له ويتآمرون عليه، فاجتمعوا وكادوا له كيدا عظيما، فكاتبوا السلطان الناصر وحرفوا الكلام عن مواضعه وألفوا مؤلفات نسبوها للشيخ رحمه الله كذبا وزورا حتى أوقعوا به، فأمر السطان بحبسه في شعبان من السنة 726هـ، فحبس في قلعة دمشق. فكان حبسه نتيجة مكيدة وخديعة لا لأن السلطان يخالفه على الحقيقة، وإنما قد نجح خصومه في الكذب عليه وتلفيق التهم له.
وكانت هذه المحنة الأخيرة محنة شديدة جدا على ابن تيمية وعلى أصحابه وتلاميذه، فقد اعتقل كثير منهم وعزر منهم الكثير، ثم أطلقوهم ما عدا تلميذه ابن القيم رحمه الله الذي بقي معتقلا إلى ما بعد وفات شيخ الإسلام رحمه الله.
وفي هذه المرة كان الشيخ في سجنه يصنف التصانيف ويرسل خارج السجن، حتى جاء مرسوم من السلطان بمنع الحبر والورق والأقلام عنه، ومنع منعا باتا من المطالعة، وكان هذا في سنة 728. حتى صار يكتب بالفحم على ما وجد من الورق، وقال في هذا الموقف الشديد مقولته الشهيرة:
ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما رحت فهي معي، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكانت هذه آخر سجنة له وقد مات فيها رحمة الله عليه، مات في السجن بعد أن منعوا عليه حتى المطالعة والكتابة والتأليف، وكان في آخر أيامه يكثر من قراءة القرآن، فقالوا أنه ختم 81 ختمة في السجن، انتهى في الختمة الأخيرة عند قوله تعالى في أواخر سورة القمر:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55)
ومات بعدها رحمه الله وغفر له ونفع الأمة الإسلامية بعلمه الذي تركه. وكانت جنازته جنازة عظيمة مشهودة.
(لقراءة قصة موت شيخ الإسلام ابن تيمية مفصلة وقصة جنازته، اضغط هنا)
ختاما
قصة محنة ابن تيمية رحمه الله قصة عظيمة فيها من العبر والدروس الكثير، نعم.. هذه هي حياة العلماء العظماء، وقد كتب له الله عز وجل انتشار مؤلفاته وذياع صيته بعد موته، حتى لا تجد اليوم مسلما إلا ويعرف من هو شيخ الإسلام ابن تيمية. رحمه الله وغفر لنا له، ونفعنا بعلمه ووفقنا لما يحبه ويرضاه، وهدانا الصراط المستقيم صراط النبيين والرسل والصالحين.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
مصادر
القرآن الكريم
كتاب: حول حياة شيخ الإسلام ابن تيمية -محمد سعيد رسلان حفظه الله-
كتاب البداية والنهاية -ابن كثير رحمه الله