تحدثنا في الجزئين الأولين من قصة موسى عليه السلام، قبل بعثته و قصته مع فرعون و قومه، و توقفنا في الجزء الثاني حين جاوز الله ببني إسرائيل البحر و أغرق فرعون و جنوده.
سؤالهم موسى عليه السلام أن يجعل لهم صنما إلها
و بعد تجاوز بني إسرائيل البحر و إغراق فرعون و قومه و صدق وعد الله لعباده و تمام نعمته عليهم، مروا أثناء سفرهم بقوم يعكفون على أصنام لهم، فسألوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم أصناما :ما لهؤلاء القوم أصنام يعبدونها، و ظنوا أن هؤلاء على حق، فقال لهم موسى عليه السلام: إنكم قوم تجهلون، إن هؤلاء متبر ما هم فيه و باطل ما كانوا يعملون.
فأخبرهم أن ما يعبد هؤلاء من دون الله باطل، و أن الله هو الإله الواحد الأحد. و أن هذا شرك بالله.
ذكر أمرهم بالجهاد و تخاذلهم عنه
و بعد ذلك أوحى الله لموسى عليه السلام أن يدخل بقومه الأرض المقدسة، و هي بيت المقدس، و كانت إذ ذاك في يد قوم أشداء يدعون بالعماليق، و كانوا قوما أقوياء جبارين، فخاف بنوا إسرائيل و أخذهم الهلع و الجبن، فماذا قالوا لموسى عليه السلام حين أمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم؟ و بشرهم أنها لهم بإذن و نصر من الله.
قالوا: إن فيها قوما جبارين و إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإنا داخلون. فقال رجلان من قومه أنعم الله عليهما بالإيمان القوي و الشجاعة و العلم: أدخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون. فقالوا: يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.
فلما يئس موسى عليه السلام منهم و علم أنهم قد تولوا و خافوا، و أنهم خذلوه و لم ينصروه، دعا ربه: رب إني لا أملك إلا نفسي و أخي فافرق بيننا و بين القوم الفاسقين. و يعني بهذا قومه.
دخول بني إسرائيل في التيه 40 سنة
و استجاب الله لموسى فقال له: فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين. و هذا هو الفرق بين قوم موسى عليه السلام و قوم محمد ﷺ، قوم محمد ﷺ لما دعاهم للجهاد يوم بدر و غيرها نصروه نصرا مؤزرا، و جاهدوا معه و أطاعوه، و لم يقولوا مثل ما قال هؤلاء.
إنزال المن و السلوى على بني إسرائيل في التيه
فدخل بنوا إسرائيل سنوات التيه، و كانوا في هذه السنوات آتاهم الله عدة نعم يعينهم بها، و منها أنه أنعم عليهم بالمن و السلوى و كانوا في أرض قاحلة، و المن و السلوى هما صنفان من الطعام، فالمن هو ما يشبه الدقيق، يجدونه صباحا خلال بيوتهم، يأخذون منه فيطبخون خبزا شديد البياض و الحلاوة. و السلوى هو طائر يأتي في الليل يصيدونه بسهولة و يشوونه، و هو عشاءهم.
و استسقى موسى عليه السلام ربه لقومه، إذ كانوا في مكان ليس فيه ماء، فأمره بأن يضرب بعصاه الحجر، فضربه فانفجرت منه اثنتا عشر عينا، كل عين لسبط من أسباطهم.
و مع كل هذه النعم رغبوا بشيء آخر، و لم يقنعوا بنعمة الله عليهم، فسألوا موسى أن يدعو ربه أن يؤتيهم مما تنبت الأرض من بقلها و قثائها و فومها و عدسها و بصلها. فقال لهم موسى: اتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم.
و اختلف المفسرون في تفسير قوله: مصرا. فقال بعضهم أنها مصر من الأمصار، أي مدينة أو قرية من المدن أو القرى، و قال بعضهم أنها بلاد مصر التي كانوا فيها. و رجح الكثير القول الأول لأنها ذكرت منونة، و لو كانت بلاد مصر لذكرت مفتوحة من غير تنوين لأنها اسم علم ممنوع من الصرف.
و ضربت عليهم الذلة و المسكنة بعد هذا، و باءوا بغضب على غضب. فغضب اللهم عليهم بعد أن تولوا عن الجهاد، و غضب عليهم أن سألوا ما ليس لهم أن يسألوه.
مواعدة موسى عليه السلام أربعين ليلة
و واعد الله تعالى موسى عليه السلام ثلاثين ليلة و أتمها بعشر، و هذا في زمن التيه، و ذهب موسى لميقات ربه تعالى و استخلف أخاه هارون عليه السلام على قومه، و لما ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه علمه ربه الكثير من العلوم، و أنزل عليه التوراة، و علمه كثيرا من العلوم.
سؤال موسى عليه السلام رؤية ربه
و مما سأل موسى عليه السلام ربه جل و علا، أنه سأله أن ينظر إليه، فقال له تعالى: لن تراني و لكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني. ثم تجلى الله سبحانه و تعالى للجبل فخر الجبل و تزلزل و جعله دكا. و صعق موسى عليه السلام، فخر مغشيا عليه. و لما أفاق قال: سبحانك تبت إليك و أنا أول المؤمنين.
و قال هذا من عظمة الله سبحانه و تعالى، و قوله أنا أول المؤمنين يعني بعدم استطاعة الناس رؤية ربهم. و أنزل عليه التوراة فيها موعظة و تفصيل من كل شيء، و أمره أن يأخذها بقوة و يأمر قومه يأخذوا بأحسنها، و أنزلت التوراة جملة واحدة في شكل ألواح.
عبادة بني إسرائيل العجل في غياب موسى عليه السلام
و بينما موسى عليه السلام غائب عند ربه، اتخذ قومه من بعده من الحلي التي جاؤوا بها من قوم فرعون عجلا، فصنعوا جسدا له خوار كخوار العجل، و نهرهم هارون عليه السلام عن ذلك و قاللهم: يا قوم إنما فتنتم به و إن ربكم الرحمان فاتبعوني و أطيعوا أمري.
و لكنهم عصوا هارون عليه السلام و استضعفوه و كادوا يقتلونه، و قالوا له: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى. بل و قالوا لما صنعوه: هذا إلهكم و إله موسى فنسي. أي أن موسى عليه السلام نسي إلهه هنا و ذهب يبحث عنه في الجبل. و هذا من عظيم الظلم و الاستهزاء و الفتنة. و لم يعبدوا كلهم العجل على كل حال، و إنما طائفة منهم.
و لما عاد موسى عليه السلام و وجدهم على تلك الحال هاله الأمر، فألقى الألواح و امسك بهارون عليه السلام من رأسه يجره إليه، فقال له هارون عليه السلام: يا بان أم إن القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء و لا تجعلني مع القوم الظالمين.
و تعذروا له بعذر قبيح، فقالوا له: ما أخلفنا موعدك و لكنا حملنا أوزار من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري. فتحججوا أنهم لم يتحملوا أوزار حلي قوم فرعون و أنهم كرهوها فقذفوها و رموها، فألقى عليها السامري شيئا فصارت عجلا له خوار ففتنوا به.
و سأل السامري فقال له: ما خطبك؟ فقال السامري: بصرت بما لم يبصروا به فأخذت قبضة من أثر الرسول فنبذتها و كذلك سولت لي نفسي. فأخبره أنه رأى الملك جبريل عليه السلام و رأى أثر، فأخذ نبذة من التراب الذي مر عليه بفرسه فخبأها، و سولت له نفسه أن يجرب هذا لما ذهب موسى عليه السلام فجربه فاضل القوم.
و طرده موسى عليه السلام و أخبره أن له موعدا لن يخلفه، و قال له: و انظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه و لننسفنه في اليم نسفا. و هذا ما كان من قصة عبادتهم للعجل، و أمر الله الذين عبدوا العجل أن يتوبوا إلى ربهم فيقتلوا أنفسهم و ذلك خير لهم عند بارئهم ليتوب عليهم.
و قتل الذين عبدوا العجل و الله أعلم كيف قتلوا و لا كيف حددوا أنهم هؤلاء الذين قتلواه. و هناك كثير من القصص الإسرائيلية في هذا و غيره نتجنبها أفضل، و العلم لله.
اختيار 70 رجلا من بني إسرائيل لميقات ربهم
و بعد هذه الحادثة اختار موسى عليه السلام من قومه 70 رجلا لميقات ربهم، ليستغفروا ربهم من ذنوبهم و يتوبوا إليه بعد عبادة العجل، و قيل أنهم لما بدأوا بقتل من عبدوا العجل قتلوا منهم نفرا ثم توقفوا عن القتل بأمر من الله، و الله أعلم ما القصد وراء اختيار هؤلاء السبعين. و قيل أنهم علماء بني إسرائيل و خيرتهم.
و لما ذهبوا مع موسى عليه السلام أمرهم أن يصوموا و يتطهروا و يطهروا ثيابهم، و أمرهم بالتوبة مما صنعوا عنهم و عن قومهم، و خرج بيهم إلى طور سيناء لميقات وقته له الله، و كان موسى عليه السلام لا يأتي ربه إلا بإذن و علم منه، فطلب منه هؤلاء الرجال أن يسمعهم كلام الله، فدعا الله و استجاب له فسمعوا كلام الله.
و بعد ذلك قالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فما قالوا ذلك أخذتهم صاعقة، فماتوا جميعا، عندها قال موسى عليه السلام لربه: رب لو شئت لأهلكتهم من قبل و إياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا، إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء و تهدي من تشاء، أنت ولينا فاغفر لنا و ارحمنا و أنت خير الغافرين.
فلما استغفر موسى لقومه أعادهم الله و أحياهم من بعد موتهم، و هو على كل شيء قدير. و هذه من عجائب بني إسرائيل، أنهم دائما يستهزؤون و يكذبون و يشككون في رسلهم و يجهلون، و يسألون ما ليس لهم أن يسألوه.
قصة بقرة بني إسرائيل
و من الأحداث التي حدثت في هذا زمن التيه حادثة البقرة، و التي سميت عليها أكبر سورة في القرآن و هي سورة البقرة، و وردت قصتها هناك في الآيات 67 إلى 72.
و مفادها أنه حدثت حادثة قتل بينهم لم يشهد عليها أحد و لم يعرفوا من القاتل، فجاؤوا إلى رسول الله موسى عليه السلام يسألونه أن يفصل لهم في هذه القضية، فأوحى الله له أنه يأمرهم أن يذبحوا بقرة.
و لما أمرهم بذلك قالوا له: أتتخذنا هزؤا؟ فاستغربوا هذا الكلام لأنهم لم يفهموا ما علاقة قتل الرجل بذبح بقرة؟ فقال لهم: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. فاتهموه بأنه يستهزأ بهم و هو نبي الله، و هذا من جهلهم. و لو فعلوا ما أمروا به من غير مجادلة و مماطلة لبلغوا المقصود من غير تشديد، فلما شددوا شدد الله عليهم.
فقالوا لنبيهم بعد ذلك: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي؟ يريدون أن يعرفوا عمر هذه البقرة و صفتها، فقال لهم موسى عليه السلام أن الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة لا فارض و لا بكر، أي ليست كبيرة في العمر و لا صغيرة لم تلد بعد.
و مع ذلك أصروا على المجادلة فقالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها؟ فشددوا فشدد الله عليهم فقال موسى عليه السلام: إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين. و هو لون عزيز قليل في البقر.
و مع ذلك أصروا مرة أخرى على الجدال فقالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا و إنا إن شاء الله لمهتدون. فشددا فشدد الله عليهم فقال موسى عليه السلام: إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض و لا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها. أي أنها غير مذللة للحرث و سقي الأرض، صحيحة سالمة لا عيب فيها. و وجدوا بقرة واحدة بهذه الصفات، و عندها قالوا: الآن جئت بالحق.
و قيل أنهم وجدوها عند رجل كان بارا بأبيه، فأبى عليهم فأرغبوه في ثمنها حتى باعها لهم بوزنها ذهبا. و قيل بشر أضعاف وزنها ذهبا، و الله أعلم في ذلك.
و لما ذبحوها أمرهم الله أن يضربوا ميتهم ببعضها، أي ببعض أجزاء منها، فلما فعلوا ذلك أحيا الله تعالى ذلك الميت فسأله موسى عليه السلام: من قتلك؟ فأخبر عن من قتله و مات مرة أخرى.
و أراهم الله بهذه الحادثة معجزة أخرى و آية أخرى من آياته، أنه قادر على إحياء الموتى و هو على كل شيء قدير.
وفاة موسى عليه السلام
قال رسول الله ﷺ عن أبي هريرة رضي الله عنه:<< جَاءَ مَلَكُ المَوْتِ إلى مُوسَى عليه السَّلَامُ. فَقالَ له: أَجِبْ رَبَّكَ قالَ فَلَطَمَ مُوسَى عليه السَّلَامُ عَيْنَ مَلَكِ المَوْتِ فَفَقَأَهَا، قالَ فَرَجَعَ المَلَكُ إلى اللهِ تَعَالَى فَقالَ: إنَّكَ أَرْسَلْتَنِي إلى عَبْدٍ لكَ لا يُرِيدُ المَوْتَ، وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي، قالَ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ وَقالَ: ارْجِعْ إلى عَبْدِي فَقُلْ: الحَيَاةَ تُرِيدُ؟ فإنْ كُنْتَ تُرِيدُ الحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ علَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَما تَوَارَتْ يَدُكَ مِن شَعْرَةٍ، فإنَّكَ تَعِيشُ بهَا سَنَةً، قالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قالَ: ثُمَّ تَمُوتُ، قالَ: فَالآنَ مِن قَرِيبٍ، رَبِّ أَمِتْنِي مِنَ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ، رَمْيَةً بحَجَرٍ، قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ لو أَنِّي عِنْدَهُ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إلى جَانِبِ الطَّرِيقِ، عِنْدَ الكَثِيبِ الأحْمَرِ.>> رواه مسلم.
فلما علم موسى عليه السلام أنه ميت لا محالة قرر أن تقبض روحه حينها خير من أن يكتب له عدد كبير من السنين في عمره و آخرها موت.
و حدثت قصة أخرى في زمن التيه نوردها في مقال آخر إن شاء الله، و هي قصة موسى عليه السلام مع الخضر.
و كذلك هناك قصة أخرى و هي قصة موسى مع قارون، لعلنا نوردها هي الأخرى لاحقا. و هذا لأنها مختلف في زمن وقوعها أهو قبل غرق فرعون أم بعده.
ختاما
كانت هذه نهاية قصة أخرى من قصص الأنبياء عليهم السلام، و هو موسى عليه السلام، و في قصصهم عبرة لأولي الألباب، فيها فوائد عظيمة جليلة. نسأل الله أن ينفعنا بها و أن يجعلنا هداة مهتدين.
هذا و الله أعلم، و صل اللهم على نبيك محمد و على آله و صحبه أجمعين.
مصادر
القرآن الكريم
السنة النبوية الصحيحة –موقع الدرر السنية للأحاديث النبوية-
كتاب قصص الأنبياء –ابن كثير-
كتاب تفسير السعدي